الصفحة الرئيسية  أخبار وطنية

أخبار وطنية من المحاصرة في مقر اتحاد الشغل الى الزنزانة رقم 9 بالداخلية: النقابي محمد المنصف غانمي يقدم شهادة على احداث 26 جانفي 1978

نشر في  28 جانفي 2019  (10:05)

بقلم محمد المنصف غانمي الامين العام المساعد (سابقا) للنقابة الوطنية للتعليم الثانوي
-الصورة المرافقة للمقال لشهيد الاتحاد في 26 جانفي حسين الكوكي الذي قتل تحت التعذيب في سوسة
 
سلام الى ارواح شهداء الاتحاد العام التونسي للشغل
الجزء الاول
عن اختيار رابطنا بمقر الاتحاد وعن اصرار لازمنا مكاتبنا داخله للحيلولة دون الاعتداء على حرمته بعد ما اعتدت ميليشيات النظام على جل مقرات الاتحاد بكامل البلاد.. وقدمت هذه الانتهاكات على انها نتيجة "صراعات داخلية بين النقابيين".
وقبل الحادثة بايام تداولنا الحراسة ليلا نهارا اضافة الى انّ عددا من الموقوفين كان من انصار الاتحاد وقواعده تمت محاصرتهم اثر غلق المنافذ على ساحة محمد علي وامطارنا بالقنابل المسيلة للدموع.
حملت لنا رفيقة الدرب نورة السافي بعض الطعام وكثيرا من الليمون لمجابهة الغازالمسيل للدموع قبل ان تغادر مصحوبة بزوجات رفاق، وكان صمودهن اسطوريا على كل الاصعدة!
حصار تام: قطع الهاتف والنورالكهربائي، تجويع ممنهج، الدبابات واعوان الامن bob من كل النواحي شاهرين اسلحتهم بعد ما حذرونا عن طريق الاخ خير الدين الصالحي عضو المكتب التنفيذي من مغبة الاطلال من النوافذ وان الرصاص سيكون الرد على كلى كل من يتجرأ!
بكامل الانضباط احترمنا هذه الاوامر والتهديدات مع ارتفاع المعنويات.. كنا نتحاور ونناقش ولم يكن بالمكتب مكان للاستلقاء او النوم، فاتخذت من بعض اعداد جريدة الشعب وسادة وقتية لاخذ نصيب من الراحة.
صباح 26 جانفي الخميس الاحمر... لعلعة السلاح تصلنا من وسط المدينة وجلبة المتظاهرين وترويع الطيور الحائمة.. اصبح الامر في منتهى التأزم.. رائحة الجريمة تزكم الانف... صمت رهيب أخذ يهيمن على الفضاء بعد الزوبعة... وحدث المحظور...
في آخر الليل انهكنا الجوع والتعب والمجهول الذي يحمل في طياته الكوابيس ونام البعض على الكراسي او افترش الارض.. رن الهاتف في وسط الليل ليطلب منا الاخ خير الدين الصالحي الذي كان محاصرا معنا بأن نستعد لتسليم انفسنا ونغادر مكاتبنا الى خارج الاتحاد من بابه الرئيسي بساحة محمد علي وان نلتزم الهدوء ووضع الايدي فوق رؤوسنا تنفيذا لاوامر الامن بعد ما كانوا قطعوا عنا الهاتف منذ الحصار...
كنا ننزل السلم الى بهو الاتحاد، وامام مشربه كان عون امن bob شاهرا سلاحه في وجوهنا وهو في منتهى الرعب، فبجرد سقوط مفتاح احد النقابيين انتفض صارخا مترجيا "خوكم مسلم".. رعب زرعه فيه اعلام النظام وتحذيرات قادة الامن من اننا مسلحون داخل مقر الاتحاد واننا خطرون مجرمون..
صرير سلاحه وإصبعه على الزناد وانتفاضته رعبا كادت تكون مجزرة فظيعة...
الدبابة التي وضعت امام الاتحاد على يسارنا بعد محاصرتنا من مساء 25 جانفي الى الساعة الثالثة صبيحة 27 كُتب عليها بالاحرف الغليظة: "حشاد" امكن لي قراءتها بواسطة الاضواء الكشافة المسلطة علينا ونحن نساق الى المجهول وربما الى الموت... أعلمني الرفيق خالد عبيشو الذي كان من بين الموقوفين انّ بن علي شخصيا بزيه العسكري و”بمريول احمر” كان متكئا على نفس الدبابة التي كانت فوهتها موجهة الى باب الاتحاد الرئيسي.. منتهى التشفي والقمع: حشاد ونحن ابناؤه وبناته، اصبح بمشيئة النظام هو الذي كان يحاصرنا...
أُطلق النار من مسدس في الفضاء فانتابنا و بعض الامنيين الخوف، حاول قائد العمليات "عبيد"، مثلما سيخبرنا بذلك البعض من الزملاء ممن زاروا الداخلية وعذبوا وحوكموا في محاكمات سياسية ان يطمئن الامنيين ان ذلك عملية عادية للانذار sommation.
خلف الدبابة الضخمة "حشاد" فرش رداء يلقي فيها اعوان الامن المدني او مليشيا الصياح عند تفتيشنا ما نملك من مفاتيح او احزمة... وجوه رهيبة في سحنتها.. شرسة في تصرفها معنا.. "بكلكم ر... بكراهبكم ؟؟؟؟؟؟" وكانت مجرد مفاتيح منازلنا في زمن كان امتلاك موظف لسيارة قديمة من الحالات الشاذة فما بالك بسائر ابناء الشعب المعدمين من النقابيين ؟؟؟؟
الزنزانة رقم 9
كنا اكثر من 200 موقوف تم حشرنا في فناء دهليز وزارة الداخلية الاسمنتي المغطى او "لارية " ذات الباب الفولاذي السميك جدا والذي لا يفتح الا من الخارج بمزلاج ذي صرير مرعب.. الدهليز الرهيب سيئ الصيت يضم 9 زنزانات باضلعه الثلاثة بداية من يسار "زائره" انتهاء بالزنزانة 9 المواجهة للباب الحديدي... زنزانتنا المحببة، فيما خصص الضلع الرابع لمرحاضين ومغسل لم يسمح لنا باستعماله... كنا محاطين بقوات البوب بازيائها و اسلحتها السوداء... امرونا بالجلوس على الاسمنت في منظر شبيه بمحتشد الجنود الاسرى او معتقلي النازية... احتفظت بجهاز مذياع صغير رغم حملة التفتيش التي تعرضنا لها عند خروجنا من دار الاتحاد... سلمته الى احد الامنيين الذي تعرفت عليه وطلبت منه تسليمه الى زوجتي بعنوان مسكن الاخت امنة زوجة الاخ محمد صالح الخريجي بباب سعدون، مسكن تحولت اليه بعد حصارنا.. سلمته المذياع الصغير كعربون اننا ما زلنا على قيد الحياة بالداخلية... ادى عون البوب المهمة ولكنه احتفظ بالمذياع كمقابل اتعاب او كهدية ثمينة او تذكار مناسبة سعيدة. 
 
الجزء الثاني
ضمت زنزانتنا رقم 9 في البداية 35 موقوفا نقابيا في فضاء لا يتسع لاكثر من 4... كان الجو خانقا واكبر معاناة هي التنفس خاصة وفي الزنزانة مكان لقضاء الحاجة لايفصله عن سائر الفضاء الا شبه جدار قصير.
ولا وجود فيه للماء الا ما كان يتسرب على جدار المرحاض.
المشكل الثاني هو الجوع، فبعد حصار طويل بمقر الاتحاد واشباعنا بالغاز المسيل للدموع والخانق اصلا، لم نمكن الا بعد العصر من علبة حليب لكل موقوف، ما ان يتناوله احدنا حتى يصاب باسهال شديد!
ومن الغد تم مدنا بلمج وهي عبارة عن نصف باقيت مغمسة في مادة شحمية بشعة التهمناها نتيجة التجويع والارهاق واحيانا بعد صراع مع الجرذان التي كانت تقاسمنا الزنزانة!
بعد اسبوع افرج عن نصف الموقوفين ولم يحتفظوا الا بالمسؤولين النقابيين وبعض الناشطين السياسيين من الاساتذة المطرودين. كانت الزنزانة رقم 9 تضم: من اعضاء النقابة القومية: محمد صالح الخريجي، المنصف غانمي، الهادي الاخزوري. من نقابيي الجهات: البشير اللقاني، احمد المانسي اضافة الى المرحوم الميداني بن صالح، الحبيب مارسيط، خالد عبيشو، محمد صالح الهمامي مع الاخوين المسؤولين النقابيين محمد النفاتي وابراهيم من جامعة الفلاحة والعم مسعود من نقابة المطاحن الذي سبق له ان اوقف وحوكم عديد المرات مع قيادات نقابية سابقة منذ زمن فرحات حشاد وبعض النقابيين الذين خانتني الذاكرة لسرد اسمائهم.. مع الاعتذار!
 
قوتنا كانت في ارتفاع معنوياتنا واناشيدنا الثورية "حماة الحمى" واغاني شيخ امام وخاصة "شيد قصورك" نرددها فيما كان البعض الاخر في زنزانات مجاورة يرتلون القرآن، ومن الغرف الفوقية تتعالى صرخات الالم من النقابيين تحت التعذيب!!
في الزنزانة رقم 1 كانت الاخت والرفيقة زينب بن سعيد الشارني صحبة نقابيتين صامدات. هن اول من رفضن الامضاء على التزام في مقايضة للعفو واطلاق السراح، وقد اعلمتني بذلك الاخت زينب الشارني بطريقة ذكية... ونقلت المعلومة الى سائر من كان في زنزانتنا بدهاليز الداخلية فلم تجرؤ ادارتها حتى على عرض الالتزام علينا.
اطلق سراحنا بعد اكثر من أسبوعين من الاعتقال قبيل موعد حظر الجولان بقليل!!
ومن الغد اجتمعت ببعض المسرحين لمواصلة النضال والتخطيط للقيام بعمل سري للتصدي والصمود ثم كانت تنسيقية النقابات l ' intersyndicale والنشرية التي اشرفت على تحرير بعض موادها وتوزيعها صحبة اخوة مناضلين من قطاعات مختلفة (نقابة التعليم الثانوي، نقابة مساعدي التعليم العالي، نقابة الاطباء، جامعة البنوك، نقابة اقليم تونس).
كما حررت اول بيان لغرة ماي وامضته نقابة التعليم الثانوي مع نقابة التعليم العالي ونقابة البريد ونقابة عمال نزل املكار، ولي نسخته الاصلية وقد نشر بجريدة الراي. ثم جمعت مع اعضاء التنسيقية المساعدات لعائلات الموقوفين ووزعناها بانتظام و بالتساوي مهما كانت درجاتهم.
ونظمنا التنسيق مع الاخوة المحامين الذين ابدعوا في الدفاع عن موقوفي الحركة النقابية وفضحوا خلفيات الهجمة الشرسة. ورابطت بالمحكمة عديد المرات زمن استنطاق النقابيين وعرضهم على حاكم التحقيق مع اعلام بعض عائلاتهم بالهاتف لتمكينهم من رؤية ذويهم من الموقوفين. وتم استقبال ممثلي نقابات اجنبية مساندة بصفة سرية ومدهم بحقيقة الوضع ومواقف الهياكل الشرعية لكسر الحصار المضروب علينا.
كما حضرنا المحاكمات بتونس وسوسة وغطيناها اعلاميا بنشرية التنسيقية النقابية رغم القمع والمحاصرة. ناضلنا معا بكامل البلاد الى ان اطلق سراح القيادة الشرعية للاتحاد ورفع الاستثناء عن الزعيم الفقيد الحبيب عاشور.
التحية مرفوعة الى المرأة المناضلة من ناشطات سياسيات وزوجات النقابيين وامهاتهم واخواتهم لما تحملن من عناء وتضحيات جسام اسطورية والى كل الحركة السياسية المعارضة المساندة والى مناضلي الحركة الديموقراطية التونسية بالخارج.. والتحية كل التحية الى كل النقابيين من شتى القطاعات مهما كانت مشاربهم والذين بصمودهم واضراباتهم ( وقد ساعدت النشرية في التعريف بها) كسروا الطوق المضروب على الموقوفين والمسجونين وعزلوا النقابات المنصبة. مع الاشادة بما قدمه الصديق المناضل صالح الزغيدي الاخ الاكبر، من دعم مادي ومعنوي صحبة ثلة من النقابيين الصادقين لانجاح معركة الصمود والتصدي!
ملاحظة هامة: على كل الاخوة والاخوات من موقوفي 26 جانفي وسواهم من المناضلين في الداخل والخارج الاضافة والتعديل حفاظا على الذاكرة.
مع الشكر